ب بادي 7.

المصحف وورد /رسم القلب الكهربي /تلاوات للقران الكريم /مراجعات الصف الأول الثانوي ترم ثاني /الخلاصة في المراجعات أولي ثانوي تثاني /مدونة اللغة العربية.كتب ومراجع /لغة عربية أولي ثانوي ت2 /ترتيب آيات الذكر الحكيم حسب تاريخ نزوله /تنزيل آيات الذكر /لماذا شرع الله تعالي الطلاق /وصف الجنة والحورالعين /كيف يكون الطلاق وما هي أحكام سورة الطلاق؟ /الكيمياء للصف الأول الثانوي /أحكام عدة النساء وكيفية الطلاق /الحائرون الملتاعون من الطلاق ونار الفراق دين الله أرحم من اختلافات الرجال /مذكرات كل فروع الرياضيات /المصحفُ مكتوباً بصيغة وورد /تقنية النانو /مدونة سورة البقرة /مذكرات مراجعة اللغة الإنجليزية /مذكرة مراجعات الفيزياء أولي ث ترم 2 / سورة النساء.تفسير وأحكام /المصحف مكتوبا ورد آية آية /ة المصاحف /مدونة سورة آل عمران /مدونة الجنة ونعيمها والنار وهول جحيمها /اللغة الألماني للصف الأول الثانوي /التاريخ اولي ثانوي /مذكرات الصف الأول الثانوي /اللغة العربية للصف الاول والثالث الثانوي /الاحياء للصف الأول الثانوي

Translate ترجمة المدونة

الجمعة، 17 فبراير 2017

61 يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ


( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ( 144 ) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ( 145 ) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( 146 ) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ( 147 ) )
يَنْهَى تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ، يَعْنِي مُصَاحَبَتَهُمْ وَمُصَادَقَتَهُمْ وَمُنَاصَحَتَهُمْ وَإِسْرَارَ الْمَوَدَّةِ إِلَيْهِمْ ، وَإِفْشَاءَ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْبَاطِنَةِ إِلَيْهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ) [ آلِ عِمْرَانَ : 28 ] أَيْ : يُحَذِّرُكُمْ عُقُوبَتَهُ فِي ارْتِكَابِكُمْ نَهْيَهُ . وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا : ( أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ) أَيْ : حُجَّةً عَلَيْكُمْ فِي عُقُوبَتِهِ إِيَّاكُمْ .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ : ( سُلْطَانًا مُبِينًا ) [ قَالَ ] كُلُّ سُلْطَانٍ فِي الْقُرْآنِ حُجَّةٌ .
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ . وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَالسُّدِّيُّ وَالنَّضْرُ بْنُ عَرَبِيٍّ .
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) أَيْ : يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمُ الْغَلِيظِ . قَالَ الْوَالِبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) أَيْ : فِي أَسْفَلِ النَّارِ . وَقَالَ غَيْرُهُ : النَّارُ دَرَكَاتٌ ، كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ دَرَجَاتٌ . " وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، عَنْ عَاصِمٍ ، عَنْ ذَكْوَانَ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) قَالَ : فِي تَوَابِيتَ تُرْتَجُ عَلَيْهِمْ . كَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ ، عَنِ ابْنِ وَكِيعٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَمَانٍ ، عَنْ سُفْيَانَ ، بِهِ . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ شَاذَانَ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى ، عَنْ إِسْرَائِيلَ ، عَنْ عَاصِمٍ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) قَالَ : الدَّرْكُ الْأَسْفَلُ بُيُوتٌ لَهَا أَبْوَابٌ تُطْبَقُ عَلَيْهِمْ ، فَتُوقَدُ مِنْ تَحْتِهِمْ وَمِنْ فَوْقِهِمْ .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ ، عَنْ خَيْثَمَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) قَالَ : فِي تَوَابِيتَ [ ص: 443 ] مِنْ نَارٍ تُطْبِقُ عَلَيْهِمْ . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ ، عَنْ وَكِيعٍ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ سَلَمَةَ ، عَنْ خَيْثَمَةَ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) قَالَ : فِي تَوَابِيتَ مِنْ حَدِيدٍ مُبْهَمَةٍ عَلَيْهِمْ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ : ( مُبْهَمَةٍ ) أَيْ : مُغْلَقَةٍ مُقْفَلَةٍ لَا يُهْتَدَى لِمَكَانِ فَتْحِهَا .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ سُئِلَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ ، فَقَالَ : يُجْعَلُونَ فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ ، فَتُطْبَقُ عَلَيْهِمْ فِي أَسْفَلِ دَرَكٍ مِنَ النَّارِ .
( وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ) أَيْ : يُنْقِذَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ ، وَيُخْرِجَهُمْ مِنْ أَلِيمِ الْعَذَابِ .
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ تَابَ [ مِنْهُمْ ] فِي الدُّنْيَا تَابَ عَلَيْهِ وَقَبِلَ نَدَمَهُ إِذَا أَخْلَصَ فِي تَوْبَتِهِ وَأَصْلَحَ عَمَلَهُ ، وَاعْتَصَمَ بِرَبِّهِ فِي جَمِيعِ أَمْرِهِ ، فَقَالَ : ( إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ ) أَيْ : بَدَّلُوا الرِّيَاءَ بِالْإِخْلَاصِ ، فَيَنْفَعُهُمُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَإِنَّ قَلَّ .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قِرَاءَةً ، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زُحْرٍ ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أَخْلِصْ دِينَكَ ، يَكْفِكَ الْقَلِيلُ مِنَ الْعَمَلِ " .
( فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ) أَيْ : فِي زُمْرَتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا )
ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْ غِنَاهُ عَمَّا سِوَاهُ ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُعَذِّبُ الْعِبَادَ بِذُنُوبِهِمْ ، فَقَالَ : ( مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ) أَيْ : أَصْلَحْتُمِ الْعَمَلَ وَآمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، ( وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ) أَيْ : مَنْ شَكَرَ شَكَرَ لَهُ وَمَنْ آمَنَ قَلْبُهُ بِهِ عَلِمَهُ ، وَجَازَاهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ .

60 إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ

(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ( 142 ) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ( 143 ) )

قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) [ الْبَقَرَةِ : 9 ] وَقَالَ هَاهُنَا : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُخَادَعُ ، فَإِنَّهُ الْعَالِمُ بِالسَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ ، وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَعَقْلِهِمْ ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَمْرَهُمْ كَمَا رَاجَ عِنْدَ النَّاسِ وَجَرَتْ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ ظَاهِرًا ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ حُكْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ ، وَأَنَّ أَمْرَهُمْ يَرُوجُ عِنْدَهُ ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْلِفُونَ لَهُ : أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالسَّدَادِ ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ نَافِعٌ لَهُمْ عِنْدَهُ ، فَقَالَ تَعَالَى : ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَّا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ] ) [ الْمُجَادَلَةِ : 18 ] .

وَقَوْلُهُ : ( وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) أَيْ : هُوَ الَّذِي يَسْتَدْرِجُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ وَضَلَالِهِمْ ، وَيَخْذُلُهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أَلَمْ يَأْنِ ) . [ الْحَدِيدِ : 13 - 15 ] [ ص: 439 ] وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ : " مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ " وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : " إِنِ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَبْدِ إِلَى الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ ، وَيُعْدَلُ بِهِ إِلَى النَّارِ " عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ .

وَقَوْلُهُ : ( وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى [ يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ] ) هَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ فِي أَشْرَفِ الْأَعْمَالِ وَأَفْضَلِهَا وَخَيْرِهَا ، وَهِيَ الصَّلَاةُ . إِذَا قَامُوا إِلَيْهَا قَامُوا وَهُمْ كُسَالَى عَنْهَا ; لِأَنَّهُمْ لَا نِيَّةَ لَهُمْ فِيهَا ، وَلَا إِيمَانَ لَهُمْ بِهَا وَلَا خَشْيَةَ ، وَلَا يَعْقِلُونَ مَعْنَاهَا كَمَا رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ ، مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : يُكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ إِلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ كَسْلَانُ ، وَلَكِنْ يَقُومُ إِلَيْهَا طَلْقَ الْوَجْهِ ، عَظِيمَ الرَّغْبَةِ ، شَدِيدَ الْفَرَحِ ، فَإِنَّهُ يُنَاجِي اللَّهَ [ تَعَالَى ] وَإِنَّ اللَّهَ أَمَامَهُ يَغْفِرُ لَهُ وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ ، ثُمَّ يَتْلُو ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْآيَةَ : ( وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى ) وَرَوِيَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، نَحْوُهُ .

فَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى ) هَذِهِ صِفَةُ ظَوَاهِرِهِمْ ، كَمَا قَالَ : ( وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى ) [ التَّوْبَةِ : 54 ] ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى صِفَةَ بَوَاطِنِهِمُ الْفَاسِدَةِ ، فَقَالَ : ( يُرَاؤُونَ النَّاسَ ) أَيْ : لَا إِخْلَاصَ لَهُمْ [ وَلَا مُعَامَلَةَ مَعَ اللَّهِ بَلْ إِنَّمَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ تَقِيَّةً مِنَ النَّاسِ وَمُصَانَعَةً لَهُمْ ] ; وَلِهَذَا يَتَخَلَّفُونَ كَثِيرًا عَنِ الصَّلَاةِ الَّتِي لَا يُرَوْنَ غَالِبًا فِيهَا كَصَلَاةِ الْعِشَاءِ وَقْتَ الْعَتَمَةِ ، وَصَلَاةِ الصُّبْحِ فِي وَقْتِ الْغَلَسِ ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ ، مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ " .

وَفِي رِوَايَةٍ : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَوْ عَلِمَ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مَرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ ، لَشَهِدَ الصَّلَاةَ ، وَلَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ لَحَرَّقْتُ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ " .

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ - هُوَ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْهَجَرِيِّ ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَحْسَنَ الصَّلَاةَ حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ ، وَأَسَاءَهَا حَيْثُ يَخْلُو ، فَتِلْكَ اسْتِهَانَةٌ ، اسْتَهَانَ بِهَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ " [ ص: 440 ] .

وَقَوْلُهُ : ( وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ) أَيْ : فِي صَلَاتِهِمْ لَا يَخْشَعُونَ [ فِيهَا ] وَلَا يَدْرُونَ مَا يَقُولُونَ ، بَلْ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ لَاهُونَ ، وَعَمَّا يُرَادُ بِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ مُعَرِضُونَ .

وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ مَالِكٌ ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ : يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ ، قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا " .

وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ ، مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَدَنِيِّ ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، بِهِ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ صَحِيحٌ .

وَقَوْلُهُ : ( مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ ) يَعْنِي : الْمُنَافِقِينَ مُحَيَّرِينَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ ، فَلَا هُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَلَا مَعَ الْكَافِرِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، بَلْ ظَوَاهِرُهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَبَوَاطِنُهُمْ مَعَ الْكَافِرِينَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَرِيهِ الشَّكُّ ، فَتَارَةً يَمِيلُ إِلَى هَؤُلَاءِ ، وَتَارَةً يَمِيلُ إِلَى أُولَئِكَ ( كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ) الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ : 20 ] .

قَالَ مُجَاهِدٌ : ( مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ ) يَعْنِي : أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ ) يَعْنِي : الْيَهُودَ .

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ ، تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً ، وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً ، وَلَا تَدْرِي أَيَّتَهُمَا تَتَّبِعُ " .

تَفَرَّدَ بِهِ مُسْلِمٌ . وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى مَرَّةً أُخْرَى ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ ، فَوَقَفَ بِهِ عَلَى ابْنِ عُمَرَ ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِهِ عَبْدُ الْوَهَّابِ مَرَّتَيْنِ كَذَلِكَ .

قُلْتُ : وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ، بِهِ مَرْفُوعًا . وَكَذَا رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ وَعَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا . وَكَذَا رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، عَنْ عَبْدَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، بِهِ مَرْفُوعًا . وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ - أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا . وَرَوَاهُ أَيْضًا صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَّةَ ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عَمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِمِثْلِهِ .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ ، حَدَّثَنَا الْهُذَيْلُ بْنُ بِلَالٍ ، عَنِ ابْنِ عُبَيْدٍ ، عَنْ أَبِيهِ : أَنَّهُ جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ بِمَكَّةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مَعَهُ ، فَقَالَ أَبِي : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ مَثَلَ الْمُنَافِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَالشَّاةِ بَيْنَ الرَّبِيضَيْنِ مِنَ الْغَنَمِ ، إِنْ أَتَتْ هَؤُلَاءِ نَطَحَتْهَا ، وَإِنْ أَتَتْ هَؤُلَاءِ نَطَحَتْهَا " فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ : كَذَبْتَ . فَأَثْنَى الْقَوْمُ عَلَى أَبِي خَيْرًا - أَوْ مَعْرُوفًا - فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَا أَظُنُّ صَاحِبَكُمْ إِلَّا كَمَا [ ص: 441 ] تَقُولُونَ ، وَلَكِنِّي شَاهِدُ نَبِيِّ اللَّهِ إِذْ قَالَ : كَالشَّاةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ . فَقَالَ : هُوَ سَوَاءٌ . فَقَالَ : هَكَذَا سَمِعْتُهُ .

وَقَالَ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ ، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ : بَيْنَمَا عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ يَقُصُّ ، وَعِنْدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، فَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَالشَّاةِ بَيْنَ رَبِيضَيْنِ ، إِذَا أَتَتْ هَؤُلَاءِ نَطَحَتْهَا ، وَإِذَا أَتَتْ هَؤُلَاءِ نَطَحَتْهَا " . فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَيْسَ كَذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كَشَاةٍ بَيْنَ غَنَمَيْنِ " . قَالَ : فَاحْتَفَظَ الشَّيْخُ وَغَضِبَ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ قَالَ : أَمَا إِنِّي لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ لَمْ أَرْدُدْ ذَلِكَ عَلَيْكَ .

طَرِيقٌ أُخْرَى : عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ بُودِوَيْهِ ، عَنْ يَعْفُرَ بْنِ زُوذَى قَالَ : سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ وَهُوَ يَقُصُّ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الرَّابِضَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ " . فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : وَيْلَكُمْ . لَا تَكْذِبُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . إِنَّمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ " .

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ - قَالَ : مَثَلُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ مَثَلُ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ انْتَهَوْا إِلَى وَادٍ ، فَدَفَعَ أَحَدُهُمْ فَعَبَرَ ، ثُمَّ وَقَعَ الْآخَرُ حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى نِصْفِ الْوَادِي نَادَاهُ الَّذِي عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي : وَيْلَكَ . أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ إِلَى الْهَلَكَةِ ؟ ارْجِعْ عَوْدُكَ عَلَى بَدْئِكَ ، وَنَادَاهُ الَّذِي عَبَرَ : هَلُمَّ إِلَى النَّجَاةِ . فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى هَذَا مَرَّةً وَإِلَى هَذَا مَرَّةً ، قَالَ : فَجَاءَهُ سَيْلٌ فَأَغْرَقَهُ ، فَالَّذِي عَبَرَ الْمُؤْمِنُ ، وَالَّذِي غَرِقَ الْمُنَافِقُ : ( مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ ) وَالَّذِي مَكَثَ الْكَافِرُ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا بِشْرٌ ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ : ( مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ ) يَقُولُ : لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ مُخْلِصِينَ وَلَا مُشْرِكِينَ مُصَرِّحِينَ بِالشِّرْكِ . قَالَ : وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَضْرِبُ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ وَلِلْمُنَافِقِ وَلِلْكَافِرِ ، كَمَثَلِ رَهْطٍ ثَلَاثَةٍ دَفَعُوا إِلَى نَهْرٍ ، فَوَقَعَ الْمُؤْمِنُ فَقَطَعَ ، ثُمَّ وَقَعَ الْمُنَافِقُ حَتَّى إِذَا كَادَ يَصِلُ إِلَى الْمُؤْمِنِ نَادَاهُ الْكَافِرُ : أَنْ هَلُمَّ إِلَيَّ ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ . وَنَادَاهُ الْمُؤْمِنُ : أَنْ هَلُمَّ إِلَيَّ ، فَإِنِّي عِنْدِي وَعِنْدِي ; يُحْصَى لَهُ مَا عِنْدَهُ . فَمَا زَالَ الْمُنَافِقُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا حَتَّى أَتَى أَذًى فَغَرَّقَهُ . وَإِنَّ الْمُنَافِقَ لَمْ يَزَلْ فِي شَكٍّ وَشُبْهَةٍ ، حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ الْمَوْتُ وَهُوَ كَذَلِكَ . قَالَ : وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ : " مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ ثَاغِيَةٍ بَيْنَ غَنَمَيْنِ ، رَأَتْ غَنَمًا عَلَى نَشَزٍ فَأَتَتْهَا وَشَامَّتْهَا فَلَمْ تَعْرِفْ ، ثُمَّ رَأَتْ غَنَمًا عَلَى نَشَزٍ فَأَتَتْهَا وَشَامَّتْهَا فَلَمْ تَعْرِفْ " .

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : ( وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ) أَيْ : وَمَنْ صَرَفَهُ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى ( فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ) [ ص: 442 ] فَإِنَّهُ : ( مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ ) وَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ أَضَلَّهُمْ عَنْ سَبِيلِ النَّجَاةِ فَلَا هَادِيَ لَهُمْ ، وَلَا مُنْقِذَ لَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ .

59 الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ

(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ( 141 ) )
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ يَتَرَبَّصُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ دَوَائِرَ السُّوءِ ، بِمَعْنَى يَنْتَظِرُونَ زَوَالَ دَوْلَتِهِمْ ، وَظُهُورَ الْكُفْرِ عَلَيْهِمْ ، وَذَهَابَ مِلَّتِهِمْ ( فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ ) أَيْ : نَصْرٌ وَتَأْيِيدٌ وَظَفَرٌ وَغَنِيمَةٌ ( قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ) ؟ أَيْ : يَتَوَدَّدُونَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ ( وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ ) أَيْ : إِدَالَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ ، كَمَا وَقَعَ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَإِنَّ الرُّسُلَ تُبْتَلَى ثُمَّ يَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ ( قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ؟ أَيْ : سَاعَدْنَاكُمْ فِي الْبَاطِنِ ، وَمَا أَلَوْنَاهُمْ خَبَالًا وَتَخْذِيلًا حَتَّى انْتَصَرْتُمْ عَلَيْهِمْ .
وَقَالَ السُّدِّيُّ : ( نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ) نَغْلِبْ عَلَيْكُمْ ، كَقَوْلِهِ : ( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ) [ الْمُجَادَلَةِ : 19 ] وَهَذَا أَيْضًا تَوَدُّدٌ مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُصَانِعُونَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ ; لِيَحْظَوْا عِنْدَهُمْ وَيَأْمَنُوا كَيْدَهُمْ ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ ، وَقِلَّةِ إِيقَانِهِمْ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) أَيْ : بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْكُمْ - أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ - مِنِ الْبَوَاطِنِ الرَّدِيئَةِ ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِجَرَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْكُمْ ظَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، لِمَا لَهُ [ تَعَالَى ] فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ، فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تَنْفَعُكُمْ ظَوَاهِرُكُمْ ، بَلْ هُوَ يَوْمٌ تُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ وَيُحَصَّلُ مَا فِي الصُّدُورِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَنْبَأَنَا الثَّوْرِيُّ ، عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ ذَرٍّ ، عَنْ يُسَيْعٍ الْكِنْدِيِّ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ : كَيْفَ هَذِهِ الْآيَةُ : ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ادْنُهُ ادْنُهْ ، ثُمَّ قَالَ : ( فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا )
وَكَذَا رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) قَالَ : ذَاكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَكَذَا رَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ : يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَقَالَ السُّدِّيُّ : ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) أَيْ : حُجَّةً .
[ ص: 438 ]
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ : ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) أَيْ : فِي الدُّنْيَا ، بِأَنْ يُسَلَّطُوا عَلَيْهِمُ اسْتِيلَاءَ اسْتِئْصَالٍ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ ظَفَرٌ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [ وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ . يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ] ) [ غَافِرٍ : 51 ، 52 ] . وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ رَدًّا عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِيمَا أَمَلَوْهُ وَتَرَبَّصُوهُ وَانْتَظَرُوهُ مِنْ زَوَالِ دَوْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَفِيمَا سَلَكُوهُ مِنْ مُصَانَعَتِهِمُ الْكَافِرِينَ ، خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهُمْ إِذَا هُمْ ظَهَرُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَاسْتَأْصَلُوهُمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ [ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ ] نَادِمِينَ ) [ الْمَائِدَةِ : 52 ] .
وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ لِمَا فِي صِحَّةِ ابْتِيَاعِهِ مِنَ التَّسْلِيطِ لَهُ عَلَيْهِ وَالْإِذْلَالِ ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِالصِّحَّةِ يَأْمُرُهُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ فِي الْحَالِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا )

58 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ..

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ( 137 ) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 138 ) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا(139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا( 140 ) )

يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّنْ دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ ، ثُمَّ عَادَ فِيهِ ثُمَّ رَجَعَ ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ضَلَالِهِ وَازْدَادَ حَتَّى مَاتَ ، فَإِنَّهُ لَا تَوْبَةَ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ ، وَلَا يَجْعَلُ لَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَرَجًا وَلَا مَخْرَجًا ، وَلَا طَرِيقًا إِلَى الْهُدَى ; وَلِهَذَا قَالَ : ( لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا )

قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبَدَةَ ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ جُمَيْعٍ ، عَنْ سِمَاكٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : ( ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا ) قَالَ : تَمُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ حَتَّى مَاتُوا . وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ .

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْمُعَلَّى ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ، ثَلَاثًا ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا )[ ص: 436 ] ثُمَّ قَالَ : ( بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) يَعْنِي : أَنَّ الْمُنَافِقِينَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ، فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مَعَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ ، يُوَالُونَهُمْ وَيُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ إِذَا خَلَوْا بِهِمْ : إِنَّمَا نَحْنُ مَعَكُمْ ، إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ . أَيْ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي إِظْهَارِنَا لَهُمُ الْمُوَافَقَةَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ فِيمَا سَلَكُوهُ مِنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ :(أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ ) ؟

ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ الْعِزَّةَ كُلَّهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَلِمَنْ جَعَلَهَا لَهُ . كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ) [ فَاطِرٍ : 10 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) [ الْمُنَافِقُونَ : 8 ] .

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّهْيِيجِ عَلَى طَلَبِ الْعِزَّةِ مِنْ جَنَابِ اللَّهِ ، وَالِالْتِجَاءِ إِلَى عُبُودِيَّتِهِ ، وَالِانْتِظَامِ فِي جُمْلَةِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَهُمُ النُّصْرَةُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ .

وَيُنَاسِبُ أَنْ يُذْكَرَ هَاهُنَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ :

حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ ، عَنْ حُمَيْدٍ الْكِنْدِيِّ ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ ، عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنِ انْتَسَبَ إِلَى تِسْعَةِ آبَاءٍ كُفَّارٍ ، يُرِيدُ بِهِمْ عِزًّا وَفَخْرًا ، فَهُوَ عَاشِرُهُمْ فِي النَّارِ " .

تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَأَبُو رَيْحَانَةَ هَذَا هُوَ أَزْدِيٌّ ، وَيُقَالُ : أَنْصَارِيٌّ . اسْمُهُ شَمْعُونُ بِالْمُعْجَمَةِ ، فِيمَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَقَالَ غَيْرُهُ : بِالْمُهْمَلَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَوْلُهُ [ تَعَالَى ] ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ) أَيْ : إِذَا ارْتَكَبْتُمِ النَّهْيَ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَيْكُمْ ، وَرَضِيتُمْ بِالْجُلُوسِ مَعَهُمْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُكْفَرُ فِيهِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيُسْتَهْزَأُ وَيُنْتَقَصُ بِهَا ، وَأَقْرَرْتُمُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، فَقَدْ شَارَكْتُمُوهُمْ فِي الَّذِي هُمْ فِيهِ . فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:(إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) [ أَيْ ] فِي الْمَأْثَمِ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ " .

وَالَّذِي أُحِيلَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ النَّهْيِ فِي ذَلِكَ ، هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ : ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ] ) [ الْأَنْعَامِ : 68 ] قَالَ مُقَاتِلُ بُنُ حَيَّانَ : نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ . يَعْنِي نُسِخَ قَوْلُهُ : ( إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ) لِقَوْلِهِ ( وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) [ الْأَنْعَامِ : 69 ] [ ص: 437 ]

وَقَوْلُهُ : ( إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) أَيْ : كَمَا أَشْرَكُوهُمْ فِي الْكُفْرِ ، كَذَلِكَ شَارَكَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ فِي الْخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ أَبَدًا ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ ، وَالْقُيُودِ وَالْأَغْلَالِ . وَشَرَابِ الْحَمِيمِ وَالْغِسْلِينِ لَا الزُّلَالِ .

57 يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ

[ص:435](يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ( 136 ) )

يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالدُّخُولِ فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ وَشُعَبِهِ وَأَرْكَانِهِ وَدَعَائِمِهِ ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ ، بَلْ مِنْ بَابِ تَكْمِيلِ الْكَامِلِ وَتَقْرِيرِهِ وَتَثْبِيتِهِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ . كَمَا يَقُولُ الْمُؤْمِنُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) [ الْفَاتِحَةِ : 6 ] أَيْ : بَصِّرْنَا فِيهِ ، وَزِدْنَا هُدَى ، وَثَبِّتْنَا عَلَيْهِ . فَأَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ) [ الْحَدِيدِ : 28 ] .

وَقَوْلُهُ : ( وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ ) يَعْنِي : الْقُرْآنَ ( وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ) وَهَذَا جِنْسٌ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَقَالَ فِي الْقُرْآنِ : ( نَزَّلَ ) ; لِأَنَّهُ نَزَلَ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا عَلَى الْوَقَائِعِ ، بِحَسَبِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ إِلَيْهِ فِي مَعَادِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ ، وَأَمَّا الْكُتُبُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَكَانَتْ تَنْزِلُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ; وَلِهَذَا قَالَ : ( وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ) ثُمَّ قَالَ ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ) أَيْ : فَقَدْ خَرَجَ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى ، وَبَعُدَ عَنِ الْقَصْدِ كُلَّ الْبُعْدِ .

56 يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ

[ ص: 434 ] ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( 135 ) )

يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ، أَيْ بِالْعَدْلِ ، فَلَا يَعْدِلُوا عَنْهُ يَمِينًا وَلَا شَمَالًا وَلَا تَأْخُذَهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ ، وَلَا يَصْرِفَهُمْ عَنْهُ صَارِفٌ ، وَأَنْ يَكُونُوا مُتَعَاوِنِينَ مُتَسَاعِدِينَ مُتَعَاضِدِينَ مُتَنَاصِرِينَ فِيهِ .

وَقَوْلُهُ : ( شُهَدَاءَ لِلَّهِ ) كَمَا قَالَ ( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ) أَيْ : لِيَكُنْ أَدَاؤُهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ صَحِيحَةً عَادِلَةً حَقًّا ، خَالِيَةً مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ وَالْكِتْمَانِ ; وَلِهَذَا قَالَ : ( وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) أَيْ : اشْهَدِ الْحَقَّ وَلَوْ عَادَ ضَرَرُهَا عَلَيْكَ وَإِذَا سُئِلْتَ عَنِ الْأَمْرِ فَقُلِ الْحَقَّ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مَضَرَّةً عَلَيْكَ ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُ لِمَنْ أَطَاعَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مَنْ كُلِّ أَمْرٍ يَضِيقُ عَلَيْهِ .

وَقَوْلُهُ : ( أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ) أَيْ : وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى وَالِدَيْكَ وَقَرَابَتِكَ ، فَلَا تُرَاعِهِمْ فِيهَا ، بَلِ اشْهَدْ بِالْحَقِّ وَإِنَّ عَادَ ضَرَرُهَا عَلَيْهِمْ ، فَإِنَّ الْحَقَّ حَاكِمٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ .

وَقَوْلُهُ : ( إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ) أَيْ : لَا تَرْعَاهُ لِغِنَاهِ ، وَلَا تُشْفِقْ عَلَيْهِ لِفَقْرِهِ ، اللَّهُ يَتَوَلَّاهُمَا ، بَلْ هُوَ أَوْلَى بِهِمَا مِنْكَ ، وَأَعْلَمُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمَا .

وَقَوْلُهُ ( فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ) أَيْ : فَلَا يَحْمِلْنَّكُمُ الْهَوَى وَالْعَصَبِيَّةُ وَبِغْضَةُ النَّاسِ إِلَيْكُمْ ، عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِي أُمُورِكُمْ وَشُؤُونِكُمْ ، بَلِ الْزَمُوا الْعَدْلَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [ الْمَائِدَةِ : 8 ]

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ ، لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُصُ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ ثِمَارَهُمْ وَزَرْعَهُمْ ، فَأَرَادُوا أَنْ يَرْشُوهُ لِيَرْفُقَ بِهِمْ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَيَّ ، وَلْأَنْتَمْ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ أَعْدَادِكُمْ مِنَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ ، وَمَا يَحْمِلُنِي حُبِّي إِيَّاهُ وَبُغْضِي لَكُمْ عَلَى أَلَّا أَعْدِلَ فِيكُمْ . فَقَالُوا : " بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ " . وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ مُسْنَدًا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ [ تَعَالَى ] .

وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا ) قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ : ( تَلْوُوا ) أَيْ : تُحَرِّفُوا الشَّهَادَةَ وَتُغَيِّرُوهَا ، " وَاللَّيُّ " هُوَ : التَّحْرِيفُ وَتَعَمُّدُ الْكَذِبِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ [ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ] ) [ آلِ عِمْرَانَ : 78 ] . وَ " الْإِعْرَاضُ " هُوَ : كِتْمَانُ الشَّهَادَةِ وَتَرْكُهَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) [ الْبَقَرَةِ : 283 ] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " خَيْرُ الشُّهَدَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا " . وَلِهَذَا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ : ( فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) أَيْ : وَسَيُجَازِيكُمْ بِذَلِكَ .

55 وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ

( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ( 131 ) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ( 132 ) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ( 133 ) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ( 134 ) )

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَأَنَّهُ الْحَاكِمُ فِيهِمَا ; وَلِهَذَا قَالَ : ( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ ) أَيْ : وَصَّيْنَاكُمْ بِمَا وَصَّيْنَاهُمْ بِهِ ، مِنْ تَقْوَى اللَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ .

ثُمَّ قَالَ : ( وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وِمَا فِي الْأَرْضِ [ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ] ) كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ : ( إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) [ إِبْرَاهِيمَ : 8 ] ، وَقَالَ ( فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) [التَّغَابُنِ : 6]أَيْ:غَنِيٌّ عَنْ عِبَادِهِ،(حَمِيدٌ) أَيْ : مَحْمُودٌ فِي جَمِيعِ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَشْرَعُهُ .

وَقَوْلُهُ : ( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ) أَيْ : هُوَ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ، الرَّقِيبُ الشَّهِيدُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ [ ص: 433 ]

وَقَوْلُهُ : ( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ) أَيْ : هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِذْهَابِكُمْ وَتَبْدِيلِكُمْ بِغَيْرِكُمْ إِذَا عَصَيْتُمُوهُ ، وَكَمَا قَالَ [ تَعَالَى ] ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) [ مُحَمَّدٍ : 38 ] . وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : مَا أَهْوَنَ الْعِبَادَ عَلَى اللَّهِ إِذَا أَضَاعُوا أَمْرَهُ ! وَقَالَ تَعَالَى : ( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ) [ إِبْرَاهِيمَ : 19 ، 20 ] أَيْ : مَا هُوَ عَلَيْهِ بِمُمْتَنِعٍ .

وَقَوْلُهُ : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) أَيْ : يَا مَنْ لَيْسَ هَمُّهُ إِلَّا الدُّنْيَا ، اعْلَمْ أَنَّ عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَإِذَا سَأَلْتَهُ مِنْ هَذِهِ وَهَذِهِ أَعْطَاكَ وَأَغْنَاكَ وَأَقْنَاكَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ] ) [ الْبَقَرَةِ : 200 - 202 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ] ) [ الشُّورَى : 20 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا . وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا . كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا . انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ] ) [ الْإِسْرَاءِ : 18 - 21 ] .

وَقَدْ زَعَمَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا ) أَيْ : مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ لِأَجْلِ ذَلِكَ ، ( فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا ) وَهُوَ مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْمَغَانِمِ وَغَيْرِهَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ . وَقَوْلُهُ : ( وَالْآخِرَةِ ) أَيْ : وَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الْآخِرَةِ ، وَهُوَ مَا ادَّخَرَهُ لَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ . وَجَعَلَهَا كَقَوْلِهِ : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا [ نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا ] وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [ هُودٍ : 15 ، 16 ] .

وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَعْنَاهَا ظَاهِرٌ ، وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ الْآيَةَ الْأَوْلَى بِهَذَا فَفِيهِ نَظَرٌ ; فَإِنَّ قَوْلَهُ ( فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) ظَاهِرٌ فِي حُضُورِ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، أَيْ : بِيَدِهِ هَذَا وَهَذَا ، فَلَا يَقْتَصِرَنَّ قَاصِرُ الْهِمَّةِ عَلَى السَّعْيِ لِلدُّنْيَا فَقَطْ ، بَلْ لِتَكُنْ هِمَّتُهُ سَامِيَةٌ إِلَى نَيْلِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَإِنَّ مَرْجِعَ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى الَّذِي بِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ ، وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، الَّذِي قَدْ قَسَّمَ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بَيْنَ النَّاسِ ، وَعَدَلَ بَيْنَهُمْ فِيمَا عَلِمَهُ فِيهِمْ ، مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ هَذَا ، وَمِمَّنْ يَسْتَحِقُّ هَذَا ; وَلِهَذَا قَالَ : ( وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا )