[ ص: 446 ] يَتَوَعَّدُ [ تَبَارَكَ وَ ] تَعَالَى الْكَافِرِينَ بِهِ وَبِرُسُلِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ فِي الْإِيمَانِ ، فَآمَنُوا بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ ، بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالْعَادَةِ ، وَمَا أَلْفَوْا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ ، لَا عَنْ دَلِيلٍ قَادَهُمْ إِلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ بَلْ بِمُجَرَّدِ الْهَوَى وَالْعَصَبِيَّةِ . فَالْيَهُودُ - عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ - آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ إِلَّا عِيسَى وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَالنَّصَارَى آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ وَكَفَرُوا بِخَاتَمِهِمْ وَأَشْرَفِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالسَّامِرَةُ لَا يُؤْمِنُونَ بِنَبِيٍّ بَعْدَ يُوشَعَ خَلِيفَةِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ ، وَالْمَجُوسُ يُقَالُ : إِنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِنَبِيٍّ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ زَرَادِشْتُ ، ثُمَّ كَفَرُوا بِشَرْعِهِ ، فَرُفِعَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ، فَقَدْ كَفَرَ بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَاجِبٌ بِكُلِّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ ، فَمَنْ رَدَّ نُبُوَّتَهُ لِلْحَسَدِ أَوِ الْعَصَبِيَّةِ أَوِ التَّشَهِّي تَبَيَّنَ أَنَّ إِيمَانَهُ بِمَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ إِيمَانًا شَرْعِيًّا ، إِنَّمَا هُوَ عَنْ غَرَضٍ وَهَوًى وَعَصَبِيَّةٍ ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ) فَوَسْمَهُمْ بِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ( وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ ) أَيْ : فِي الْإِيمَانِ ( وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ) أَيْ : طَرِيقًا وَمَسْلَكًا .
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ ، فَقَالَ : ( أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ) أَيْ : كُفْرُهُمْ مُحَقَّقٌ لَا مَحَالَةَ بِمَنِ ادَّعَوُا الْإِيمَانَ بِهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ شَرْعِيًّا ، إِذْ لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ لِكَوْنِهِ رَسُولَ اللَّهِ لَآمَنُوا بِنَظِيرِهِ ، وَبِمَنْ هُوَ أَوْضَحُ دَلِيلًا وَأَقْوَى بُرْهَانًا مِنْهُ ، لَوْ نَظَرُوا حَقَّ النَّظَرِ فِي نُبُوَّتِهِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ) أَيْ : كَمَا اسْتَهَانُوا بِمَنْ كَفَرُوا بِهِ إِمَّا لِعَدَمِ نَظَرِهِمْ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى جَمْعِ حُطَامِ الدُّنْيَا مِمَّا لَا ضَرُورَةَ بِهِمْ إِلَيْهِ ، وَإِمَّا بِكُفْرِهِمْ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ حَسَدُوهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ الْعَظِيمَةِ ، وَخَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ وَعَادُوهُ وَقَاتَلُوهُ ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الذُّلَّ الدُّنْيَوِيَّ الْمَوْصُولَ بِالذُّلِّ الْأُخْرَوِيِّ : ( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ) [ الْبَقَرَةِ : 61 ] فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ) يَعْنِي بِذَلِكَ : أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَبِكُلِّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ [ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ] ) [ الْبَقَرَةِ : 285 ] .
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَدْ أَعَدَّ لَهُمُ الْجَزَاءَ الْجَزِيلَ وَالثَّوَابَ الْجَلِيلَ وَالْعَطَاءَ الْجَمِيلَ ، فَقَالَ : ( أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ) عَلَى مَا آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ( وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) أَيْ : لِذُنُوبِهِمْ أَيْ : إِنْ كَانَ لِبَعْضِهِمْ ذُنُوبٌ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق