يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّنْ دَخَلَ فِي الْإِيمَانِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ ، ثُمَّ عَادَ فِيهِ ثُمَّ رَجَعَ ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ضَلَالِهِ وَازْدَادَ حَتَّى مَاتَ ، فَإِنَّهُ لَا تَوْبَةَ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ ، وَلَا يَجْعَلُ لَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَرَجًا وَلَا مَخْرَجًا ، وَلَا طَرِيقًا إِلَى الْهُدَى ; وَلِهَذَا قَالَ : ( لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا )
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبَدَةَ ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ جُمَيْعٍ ، عَنْ سِمَاكٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : ( ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا ) قَالَ : تَمُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ حَتَّى مَاتُوا . وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْمُعَلَّى ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ، ثَلَاثًا ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا )[ ص: 436 ] ثُمَّ قَالَ : ( بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) يَعْنِي : أَنَّ الْمُنَافِقِينَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ، فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مَعَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ ، يُوَالُونَهُمْ وَيُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ إِذَا خَلَوْا بِهِمْ : إِنَّمَا نَحْنُ مَعَكُمْ ، إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ . أَيْ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي إِظْهَارِنَا لَهُمُ الْمُوَافَقَةَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ فِيمَا سَلَكُوهُ مِنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ :(أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ ) ؟
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ الْعِزَّةَ كُلَّهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَلِمَنْ جَعَلَهَا لَهُ . كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ) [ فَاطِرٍ : 10 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) [ الْمُنَافِقُونَ : 8 ] .
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّهْيِيجِ عَلَى طَلَبِ الْعِزَّةِ مِنْ جَنَابِ اللَّهِ ، وَالِالْتِجَاءِ إِلَى عُبُودِيَّتِهِ ، وَالِانْتِظَامِ فِي جُمْلَةِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَهُمُ النُّصْرَةُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ .
وَيُنَاسِبُ أَنْ يُذْكَرَ هَاهُنَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ :
حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ ، عَنْ حُمَيْدٍ الْكِنْدِيِّ ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ ، عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنِ انْتَسَبَ إِلَى تِسْعَةِ آبَاءٍ كُفَّارٍ ، يُرِيدُ بِهِمْ عِزًّا وَفَخْرًا ، فَهُوَ عَاشِرُهُمْ فِي النَّارِ " .
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَأَبُو رَيْحَانَةَ هَذَا هُوَ أَزْدِيٌّ ، وَيُقَالُ : أَنْصَارِيٌّ . اسْمُهُ شَمْعُونُ بِالْمُعْجَمَةِ ، فِيمَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَقَالَ غَيْرُهُ : بِالْمُهْمَلَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ [ تَعَالَى ] ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ) أَيْ : إِذَا ارْتَكَبْتُمِ النَّهْيَ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَيْكُمْ ، وَرَضِيتُمْ بِالْجُلُوسِ مَعَهُمْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُكْفَرُ فِيهِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيُسْتَهْزَأُ وَيُنْتَقَصُ بِهَا ، وَأَقْرَرْتُمُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، فَقَدْ شَارَكْتُمُوهُمْ فِي الَّذِي هُمْ فِيهِ . فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:(إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) [ أَيْ ] فِي الْمَأْثَمِ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ " .
وَالَّذِي أُحِيلَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ النَّهْيِ فِي ذَلِكَ ، هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ : ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ] ) [ الْأَنْعَامِ : 68 ] قَالَ مُقَاتِلُ بُنُ حَيَّانَ : نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ . يَعْنِي نُسِخَ قَوْلُهُ : ( إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ) لِقَوْلِهِ ( وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) [ الْأَنْعَامِ : 69 ] [ ص: 437 ]
وَقَوْلُهُ : ( إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) أَيْ : كَمَا أَشْرَكُوهُمْ فِي الْكُفْرِ ، كَذَلِكَ شَارَكَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ فِي الْخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ أَبَدًا ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ ، وَالْقُيُودِ وَالْأَغْلَالِ . وَشَرَابِ الْحَمِيمِ وَالْغِسْلِينِ لَا الزُّلَالِ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق