وَقَالَ السُّدِّيُّ : ( نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ) نَغْلِبْ عَلَيْكُمْ ، كَقَوْلِهِ : ( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ) [ الْمُجَادَلَةِ : 19 ] وَهَذَا أَيْضًا تَوَدُّدٌ مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُصَانِعُونَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ ; لِيَحْظَوْا عِنْدَهُمْ وَيَأْمَنُوا كَيْدَهُمْ ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ ، وَقِلَّةِ إِيقَانِهِمْ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) أَيْ : بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْكُمْ - أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ - مِنِ الْبَوَاطِنِ الرَّدِيئَةِ ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِجَرَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْكُمْ ظَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، لِمَا لَهُ [ تَعَالَى ] فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ، فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تَنْفَعُكُمْ ظَوَاهِرُكُمْ ، بَلْ هُوَ يَوْمٌ تُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ وَيُحَصَّلُ مَا فِي الصُّدُورِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَنْبَأَنَا الثَّوْرِيُّ ، عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ ذَرٍّ ، عَنْ يُسَيْعٍ الْكِنْدِيِّ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ : كَيْفَ هَذِهِ الْآيَةُ : ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ادْنُهُ ادْنُهْ ، ثُمَّ قَالَ : ( فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا )
وَكَذَا رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) قَالَ : ذَاكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَكَذَا رَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ : يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَقَالَ السُّدِّيُّ : ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) أَيْ : حُجَّةً .
[ ص: 438 ]
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ : ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) أَيْ : فِي الدُّنْيَا ، بِأَنْ يُسَلَّطُوا عَلَيْهِمُ اسْتِيلَاءَ اسْتِئْصَالٍ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ ظَفَرٌ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [ وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ . يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ] ) [ غَافِرٍ : 51 ، 52 ] . وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ رَدًّا عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِيمَا أَمَلَوْهُ وَتَرَبَّصُوهُ وَانْتَظَرُوهُ مِنْ زَوَالِ دَوْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَفِيمَا سَلَكُوهُ مِنْ مُصَانَعَتِهِمُ الْكَافِرِينَ ، خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهُمْ إِذَا هُمْ ظَهَرُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَاسْتَأْصَلُوهُمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ [ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ ] نَادِمِينَ ) [ الْمَائِدَةِ : 52 ] .
وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ لِمَا فِي صِحَّةِ ابْتِيَاعِهِ مِنَ التَّسْلِيطِ لَهُ عَلَيْهِ وَالْإِذْلَالِ ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِالصِّحَّةِ يَأْمُرُهُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ فِي الْحَالِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق