يقول تعالى : ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه ، كما ثبت في الصحيحين ، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " .
ثم إذا وقع شيء من هذه الثلاث ، فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله ، وإنما ذلك إلى الإمام أو نائبه .
وقوله : ( إلا خطأ ) قالوا : هو استثناء منقطع ، كقول الشاعر
من البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ على الأرض إلا ريط برد مرحل
.
ولهذا شواهد كثيرة .
واختلف في سبب نزول هذه [ الآية ] فقال مجاهد وغير واحد : نزلت في عياش بن [ ص: 375 ] أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه - وهي أسماء بنت مخربة - وذلك أنه قتل رجلا كان يعذبه مع أخيه على الإسلام ، وهو الحارث بن يزيد العامري ، فأضمر له عياش السوء ، فأسلم ذلك الرجل وهاجر ، وعياش لا يشعر ، فلما كان يوم الفتح رآه ، فظن أنه على دينه ، فحمل عليه فقتله . فأنزل الله هذه الآية .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : نزلت في أبي الدرداء ; لأنه قتل رجلا وقد قال كلمة الإسلام حين رفع السيف ، فأهوى به إليه ، فقال كلمته ، فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال : إنما قالها متعوذا . فقال له : " هل شققت عن قلبه " [ وهذه القصة في الصحيح لغير أبي الدرداء ] .
وقوله : ( ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله [ إلا أن يصدقوا ] ) هذان واجبان في قتل الخطأ ، أحدهما : الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم ، وإن كان خطأ ، ومن شرطها أن تكون عتق رقبة مؤمنة فلا تجزئ الكفارة .
وحكى ابن جرير ، عن ابن عباس والشعبي وإبراهيم النخعي والحسن البصري أنهم قالوا : لا يجزئ الصغير حتى يكون قاصدا للإيمان . وروي من طريق عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة قال : في : ( فتحرير رقبة مؤمنة ) لا يجزئ فيها صبي .
واختار ابن جرير إن كان مولودا بين أبوين مسلمين أجزأ ، وإلا فلا . والذي عليه الجمهور : أنه متى كان مسلما صح عتقه عن الكفارة ، سواء كان صغيرا أو كبيرا .
وقال الإمام أحمد : أنبأنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عبد الله بن عبد الله ، عن رجل من الأنصار ; أنه جاء بأمة سوداء ، فقال : يا رسول الله ، إن علي رقبة مؤمنة ، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن لا إله إلا الله ؟ " قالت : نعم . قال : " أني رسول الله ؟ " قالت نعم . قال : " بالبعث بعد الموت ؟ " قالت : نعم ، قال : " أعتقها " .
وهذا إسناد صحيح ، وجهالة الصحابي لا تضر .
وفي موطأ [ الإمام ] مالك ومسندي الشافعي وأحمد ، وصحيح مسلم ، وسنن أبي داود والنسائي ، من طريق هلال بن أبي ميمونة ، عن عطاء بن يسار ، عن معاوية بن الحكم أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أين الله ؟ " قالت : في السماء . قال : " من أنا " قالت : أنت [ ص: 376 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أعتقها فإنها مؤمنة " .
وقوله : ( ودية مسلمة إلى أهله ) هو الواجب الثاني فيما بين القاتل وأهل القتيل ، عوضا لهم عما فاتهم من قريبهم . وهذه الدية إنما تجب أخماسا ، كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من حديث الحجاج بن أرطأة ، عن زيد بن جبير ، عن خشف بن مالك ، عن ابن مسعود قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض ، وعشرين بني مخاض ذكورا ، وعشرين بنت لبون ، وعشرين جذعة وعشرين حقة .
لفظ النسائي ، وقال الترمذي : لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ، وقد روي عن عبد الله موقوفا .
وكذا روي عن [ علي و ] طائفة .
وقيل : تجب أرباعا . وهذه الدية إنما تجب على عاقلة القاتل ، لا في ماله ، قال الشافعي ، رحمه الله : لم أعلم مخالفا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة ، وهو أكثر من حديث الخاصة وهذا الذي أشار إليه ، رحمه الله ، قد ثبت في غير ما حديث ، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : اقتتلت امرأتان من هذيل ، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو أمة ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها .
وهذا يقتضي أن حكم عمد الخطأ حكم الخطأ المحض في وجوب الدية ، لكن هذا تجب فيه الدية أثلاثا كالعمد ، لشبهه به .
وفي صحيح البخاري ، عن عبد الله بن عمر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ، فدعاهم إلى الإسلام ، فلم يحسنوا أن يقولوا : أسلمنا . فجعلوا يقولون : صبأنا صبأنا . فجعل خالد يقتلهم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع يديه وقال : " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد " . وبعث عليا فودى قتلاهم وما أتلف من أموالهم ، حتى ميلغة الكلب .
وهذا [ الحديث ] يؤخذ منه أن خطأ الإمام أو نائبه يكون في بيت المال .
وقوله : ( إلا أن يصدقوا ) أي : فتجب فيه الدية مسلمة إلى أهله إلا أن يتصدقوا بها فلا تجب .
[ ص: 377 ]
وقوله : ( فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ) أي : إذا كان القتيل مؤمنا ، ولكن أولياؤه من الكفار أهل حرب ، فلا دية لهم ، وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير .
وقوله : ( وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق [ فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ] ) الآية ، أي : فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة ، فلهم دية قتيلهم ، فإن كان مؤمنا فدية كاملة ، وكذا إن كان كافرا أيضا عند طائفة من العلماء . وقيل : يجب في الكافر نصف دية المسلم ، وقيل : ثلثها ، كما هو مفصل في [ كتاب الأحكام ] ويجب أيضا على القاتل تحرير رقبة مؤمنة .
( فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ) أي : لا إفطار بينهما ، بل يسرد صومهما إلى آخرهما ، فإن أفطر من غير عذر ، من مرض أو حيض أو نفاس ، استأنف . واختلفوا في السفر : هل يقطع أم لا ؟ على قولين .
وقوله : ( توبة من الله وكان الله عليما حكيما ) أي : هذه توبة القاتل خطأ إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين .
واختلفوا فيمن لا يستطيع الصيام : هل يجب عليه إطعام ستين مسكينا ، كما في كفارة الظهار ؟ على قولين ; أحدهما : نعم . كما هو منصوص عليه في كفارة الظهار ، وإنما لم يذكر هاهنا ; لأن هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير ، فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام لما فيه من التسهيل والترخيص . القول الثاني : لا يعدل إلى الإطعام ; لأنه لو كان واجبا لما أخر بيانه عن وقت الحاجة .
( وكان الله عليما حكيما ) قد تقدم تفسيره غير مرة .
ثم لما بين تعالى حكم القتل الخطأ ، شرع في بيان حكم القتل العمد ، فقال : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا [ فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ] ) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم ، الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله ، حيث يقول ، سبحانه ، في سورة الفرقان : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق [ ولا يزنون ] ) الآية [ الفرقان : 68 ] وقال تعالى : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا ) [ إلى أن قال :
( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ) [ الأنعام : 151 ] .
والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا . من ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء " وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود ، من رواية عمرو بن الوليد بن عبدة المصري ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال المؤمن معنقا صالحا ما لم يصب دما حراما ، فإذا أصاب دما حراما بلح " وفي [ ص: 378 ] حديث آخر : " لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم " وفي الحديث الآخر : " لو أجمع أهل السماوات والأرض على قتل رجل مسلم ، لأكبهم الله في النار " وفي الحديث الآخر : " من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة ، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيس من رحمة الله " .
وقد كان ابن عباس ، رضي الله عنهما ، يرى أنه لا توبة للقاتل عمدا لمؤمن .
وقال البخاري : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا مغيرة بن النعمان قال : سمعت ابن جبير قال : اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها فقال : نزلت هذه الآية : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم [ خالدا ] ) هي آخر ما نزل وما نسخها شيء .
وكذا رواه هو أيضا ومسلم والنسائي من طرق ، عن شعبة ، به ورواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ، عن ابن مهدي ، عن سفيان الثوري ، عن مغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا ) فقال : لم ينسخها شيء .
[ وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : قال عبد الرحمن بن أبزى : سئل ابن عباس عن قوله : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا ) فقال : لم ينسخها شيء ] وقال في هذه الآية : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر [ ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ] ) [ الفرقان : 68 ] قال نزلت في أهل الشرك .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن منصور ، حدثني سعيد بن جبير - أو حدثني الحكم ، عن سعيد بن جبير - قال : سألت ابن عباس عن قوله [ تعالى ] ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ) قال : إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام ، ثم قتل مؤمنا متعمدا ، فجزاؤه جهنم ولا توبة له . فذكرت ذلك لمجاهد فقال : إلا من ندم .
حدثنا ابن حميد ، وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن يحيى الجابر ، عن سالم بن أبي الجعد قال : كنا عند ابن عباس بعد ما كف بصره ، فأتاه رجل فناداه : يا عبد الله بن عباس ، ما ترى في رجل قتل [ ص: 379 ] مؤمنا متعمدا ؟ فقال : ( جزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ) قال : أفرأيت إن تاب وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال ابن عباس : ثكلته أمه ، وأنى له التوبة والهدى ؟ والذي نفسي بيده ! لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : " ثكلته أمه ، قاتل مؤمن متعمدا ، جاء يوم القيامة آخذه بيمينه أو بشماله ، تشخب أوداجه دما في قبل عرش الرحمن ، يلزم قاتله بشماله بيده الأخرى ، يقول : سل هذا فيم قتلني " ؟ وايم الذي نفس عبد الله بيده ! لقد أنزلت هذه الآية ، فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وما نزل بعدها من برهان .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت يحيى بن المجبر يحدث عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس ; أن رجلا أتاه فقال : أرأيت رجلا قتل رجلا متعمدا ؟ فقال : ( جزاؤه جهنم خالدا فيها [ وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ] ) قال : لقد نزلت في آخر ما نزل ، ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال : وأنى له بالتوبة . وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول : " ثكلته أمه ، رجل قتل رجلا متعمدا ، يجيء يوم القيامة آخذا قاتله بيمينه أو بيساره - وآخذا رأسه بيمينه أو بشماله - تشخب أوداجه دما من قبل العرش يقول : يا رب ، سل عبدك فيم قتلني ؟ " .
وقد رواه النسائي عن قتيبة وابن ماجه عن محمد بن الصباح ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمار الدهني ، ويحيى الجابر وثابت الثمالي عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس ، فذكره وقد روي هذا عن ابن عباس من طرق كثيرة .
وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف : زيد بن ثابت ، وأبو هريرة ، وعبد الله بن عمر ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعبيد بن عمر ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم ، نقله ابن أبي حاتم .
وفي الباب أحاديث كثيرة : من ذلك ما رواه أبو بكر بن مردويه الحافظ في تفسيره : حدثنا دعلج بن أحمد ، حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي وحدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا إبراهيم بن فهد قالا حدثنا عبيد بن عبيدة ، حدثنا معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن أبي عمرو بن شرحبيل ، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يجيء المقتول متعلقا بقاتله يوم القيامة ، آخذا رأسه بيده الأخرى فيقول : يا رب ، سل هذا فيم قتلني ؟ " قال : " فيقول : قتلته لتكون العزة لك . فيقول : فإنها لي " . قال : " ويجيء آخر متعلقا بقاتله فيقول : رب ، سل هذا فيم قتلني ؟ " قال : " فيقول قتلته لتكون العزة لفلان " . قال : " فإنها ليست له بؤ بإثمه " . قال : " فيهوي في النار سبعين خريفا " .
وقد رواه عن النسائي ، عن إبراهيم بن المستمر العوفي ، عن عمرو بن عاصم ، عن معتمر بن [ ص: 380 ] سليمان ، به
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا صفوان بن عيسى ، حدثنا ثور بن يزيد ، عن أبي عون ، عن أبي إدريس قال : سمعت معاوية ، رضي الله عنه ، يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا ، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا " .
وكذا رواه النسائي ، عن محمد بن المثنى ، عن صفوان بن عيسى ، به .
وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا سمويه ، حدثنا عبد الأعلى بن مسهر ، حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا خالد بن دهقان ، حدثنا ابن أبي زكريا قال : سمعت أم الدرداء تقول : سمعت أبا الدرداء يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا ، أو من قتل مؤمنا متعمدا " .
وهذا غريب جدا من هذا الوجه . والمحفوظ حديث معاوية المتقدم فالله أعلم .
ثم روى ابن مردويه من طريق بقية بن الوليد ، عن نافع بن يزيد ، حدثني ابن جبير الأنصاري ، عن داود بن الحصين ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قتل مؤمنا متعمدا فقد كفر بالله عز وجل " .
وهذا حديث منكر أيضا ، وإسناده تكلم فيه جدا .
وقال الإمام أحمد : حدثنا النضر ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، حدثنا حميد قال : أتاني أبو العالية أنا وصاحب لي ، فقال لنا : هلما فأنتما أشب شيئا مني ، وأوعى للحديث مني ، فانطلق بنا إلى بشر بن عاصم - فقال له أبو العالية : حدث هؤلاء حديثك . فقال : حدثنا عقبة بن مالك الليثي قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية ، فأغارت على قوم ، فشد من القوم رجل ، فاتبعه رجل من السرية شاهرا سيفه فقال الشاد من القوم : إني مسلم . فلم ينظر فيما قال ، فضربه فقتله ، فنمى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولا شديدا ، فبلغ القاتل . فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، إذ قال القاتل : والله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل . قال : فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وعمن قبله من الناس ، وأخذ في خطبته ، ثم قال أيضا : يا رسول الله ، ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل ، فأعرض عنه وعمن قبله من الناس ، وأخذ في خطبته ، ثم لم يصبر ، فقال الثالثة : والله يا رسول الله ما قال إلا تعوذا من القتل . [ ص: 381 ] فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرف المساءة في وجهه ، فقال : " إن الله أبى على من قتل مؤمنا " ثلاثا .
ورواه النسائي من حديث سليمان بن المغيرة
والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها : أن القاتل له توبة فيما بينه وبين ربه عز وجل ، فإن تاب وأناب وخشع وخضع ، وعمل عملا صالحا ، بدل الله سيئاته حسنات ، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن طلابته .
قال الله تعالى : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر [ ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ] . إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا [ فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ] ) [ الفرقان : 68 ، 69 ] وهذا خبر لا يجوز نسخه . وحمله على المشركين ، وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر ، ويحتاج حمله إلى دليل ، والله أعلم .
وقال تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله [ إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ] ) [ الزمر : 53 ] وهذا عام في جميع الذنوب ، من كفر وشرك ، وشك ونفاق ، وقتل وفسق ، وغير ذلك : كل من تاب من أي ذلك تاب الله عليه .
وقال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] . فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك ، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها ، لتقوية الرجاء ، والله أعلم .
وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ، ثم سأل عالما : هل لي من توبة ؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ! ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه ، فهاجر إليه ، فمات في الطريق ، فقبضته ملائكة الرحمة . كما ذكرناه غير مرة ، إن كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى ; لأن الله وضع عنا الأغلال والآصار التي كانت عليهم ، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة . فأما الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا [ فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ] ) فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف : هذا جزاؤه إن جازاه ، وقد رواه ابن مردويه مرفوعا ، من طريق محمد بن جامع العطار ، عن العلاء بن ميمون العنبري ، عن حجاج الأسود ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة مرفوعا ، ولكن لا يصح ومعنى هذه الصيغة : أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه ، وكذا كل وعيد على ذنب ، لكن قد يكون كذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه ، على قولي أصحاب الموازنة أو الإحباط . وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد ، والله أعلم بالصواب . وبتقدير دخول [ ص: 382 ] القاتل إلى النار ، أما على قول ابن عباس ومن وافقه أنه لا توبة له ، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحا ينجو به ، فليس يخلد فيها أبدا ، بل الخلود هو المكث الطويل . وقد تواردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى ذرة من إيمان . وأما حديث معاوية : " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا ، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا " : " عسى " للترجي ، فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين لا ينتفى وقوع ذلك في أحدهما ، وهو القتل ; لما ذكرنا من الأدلة . وأما من مات كافرا ; فالنص أنه لا يغفر له البتة ، وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة ، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه ، والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين ، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة ، ولا بد من أدائها إليهم في صحة التوبة ، فإن تعذر ذلك فلا بد من الطلابة يوم القيامة ، لكن لا يلزم من وقوع الطلابة وقوع المجازاة ، وقد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها ، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة ، أو يعوض الله المقتول من فضله بما يشاء ، من قصور الجنة ونعيمها ، ورفع درجته فيها ونحو ذلك ، والله أعلم .
ثم للقتل العمد أحكام في الدنيا وأحكام في الآخرة أما [ في ] الدنيا فتسلط أولياء المقتول عليه ، قال الله تعالى : ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا [ فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ] ) [ الإسراء : 33 ] ثم هم مخيرون بين أن يقتلوا ، أو يعفوا ، أو يأخذوا دية مغلظة أثلاثا : ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة كما هو مقرر في كتب الأحكام .
واختلف الأئمة : هل تجب عليه كفارة : عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ؟ على أحد القولين ، كما تقدم في كفارة الخطأ ، على قولين : فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون : نعم ، يجب عليه ; لأنه إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب عليه في العمد أولى . وطردوا هذا في كفارة اليمين الغموس ، واعتضدوا بقضاء الصلوات المتروكة عمدا ، كما أجمعوا على ذلك في الخطأ .
قال أصحاب الإمام أحمد وآخرون : قتل العمد أعظم من أن يكفر ، فلا كفارة فيه ، وكذا اليمين الغموس ، ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هاتين الصورتين وبين الصلاة المتروكة عمدا ، فإنهم يقولون : بوجوب قضائها وإن تركت عمدا .
وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا عارم بن الفضل ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن إبراهيم بن أبي عبلة ، عن الغريف بن عياش ، عن واثلة بن الأسقع قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم فقالوا : إن صاحبا لنا قد أوجب . قال : " فليعتق رقبة ، يفدي الله بكل عضو منها عضوا منه من النار " .
[ ص: 383 ]
وقال أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق ، حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن إبراهيم بن أبي عبلة عن الغريف الديلمي قال : أتينا واثلة بن الأسقع الليثي فقلنا : حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب ، فقال : " أعتقوا عنه ، يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار " .
وكذا رواه أبو داود والنسائي ، من حديث إبراهيم بن أبي عبلة ، به ولفظ أبي داود عن الغريف الديلمي قال : أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا : حدثنا حديثا ليس فيه زيادة ولا نقصان . فغضب فقال : إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته فيزيد وينقص ، قلنا : إنا أردنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب - يعني النار - بالقتل ، فقال : " أعتقوا عنه ، يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار " .
[ قوله عز وجل ]:(؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛)يأتي في الصفحة القادمة ص42 ان شاء الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق